فصل: من فوائد الجصاص في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

قوله: {لاَ تُضَارَّ} يحتمل وجهين كلاهما جائز في اللغة، وإنما احتمل الوجهين نظرًا لحال الإدغام الواقع في تضار أحدهما: أن يكون أصله لا تضار بكسر الراء الأولى، وعلى هذا الوجه تكون المرأة هي الفاعلة للضرار والثاني: أن يكون أصله لا تضارر بفتح الراء الأولى فتكون المرأة هي المفعولة بها الضرار، وعلى الوجه الأول يكون المعنى: لا تفعل الأم الضرار بالأب بسبب إيصال الضرار إلى الولد، وذلك بأن تمتنع المرأة من إرضاعه مع أن الأب ما امتنع عليها في النفقة من الرزق والكسوة، فتلقى الولد عليه، وعلى الوجه الثاني معناه: لا تضارر، أي لا يفعل الأب الضرار بالأم فينزع الولد منها مع رغبتها في إمساكها وشدة محبتها له، وقوله: {وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} أي: ولا تفعل الأم الضرار بالأب بأن تلقي الولد عليه، والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد، وهو أن يغيظ أحدهما صاحبه بسبب الولد. اهـ.
قال الفخر:
قوله: {لاَ تُضَارَّ والدة بِوَلَدِهَا} وإن كان خبرًا في الظاهر، لكن المراد منه النهي، وهو يتناول إساءتها إلى الولد بترك الرضاع، وترك التعهد والحفظ. اهـ.
وقال الفخر:
وقوله: {وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} يتناول كل المضار، وذلك بأن يمنع الوالدة أن ترضعه وهي به أرأف وقد يكون بأن يضيق عليها النفقة والكسوة أو بأن يسيء العشرة فيحملها ذلك على إضرارها بالولد، فكل ذلك داخل في هذا النهي والله أعلم. اهـ.

.من فوائد الجصاص في الآية:

قال رحمه الله:
باب الرَّضَاعِ:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} الْآيَةَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُهُ الْخَبَرُ، وَلَكِنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ مَفْهُومِ الْخِطَابِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْخَبَرَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرًا لَوُجِدَ مَخْبَرُهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْوَالِدَاتِ مَنْ لَا يُرْضِعُ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْخَبَرَ.
وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْخَبَرَ.
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ الْخَبَرُ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إيجَابُ الرَّضَاعِ عَلَى الْأُمِّ وَأَمْرُهَا بِهِ؛ إذْ قَدْ يَرِدُ الْأَمْرُ فِي صِيغَةِ الْخَبَرِ، كَقَوْلِهِ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}، وَأَنْ يُرِيدَ بِهِ إثْبَاتَ حَقِّ الرَّضَاعِ لِلْأُمِّ وَإِنْ أَبَى الْأَب، أَوْ تَقْدِيرُ مَا يَلْزَمُ الْأَبَ مِنْ نَفَقَةِ الرَّضَاعِ فَلَمَّا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الرَّضَاعَ شَاءَتْ الْأُمُّ أَوْ أَبَتْ، وَأَنَّهَا مُخَيَّرَةٌ فِي أَنْ تُرْضِعَ أَوْ لَا تُرْضِعَ؛ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَبَ إذَا أَبَى اسْتِرْضَاعَ الْأُمِّ أُجْبِرَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَلْزَمُهُ فِي نَفَقَةِ الرَّضَاعِ لِلْحَوْلَيْنِ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يُنْفِقَ نَفَقَةَ الرَّضَاعِ أَكْثَرَ مِنْهُمَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ.
ثُمَّ لَا يَخْلُو بَعْدَ ذَلِكَ قَوْله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} مِنْ أَنْ يَكُونَ عُمُومًا فِي سَائِرِ الْأُمَّهَاتِ مُطَلَّقَاتٍ كُنَّ أَوْ غَيْرَ مُطَلَّقَاتٍ، أَوْ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمُطَلَّقَاتِ مَقْصُورَ الْحُكْمِ عَلَيْهِنَّ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ سَائِرَ الْأُمَّهَاتِ الْمُطَلَّقَاتِ مِنْهُنَّ وَالْمُزَوَّجَاتِ فَإِنَّ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ لِلْمُزَوَّجَاتِ مِنْهُنَّ هِيَ نَفَقَةُ الزَّوْجِيَّةِ وَكِسْوَتُهَا لَا لِلرَّضَاعِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ نَفَقَةَ الرَّضَاعِ مَعَ بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ، فَتَجْتَمِعُ لَهَا نَفَقَتَانِ إحْدَاهُمَا لِلزَّوْجِيَّةِ وَالْأُخْرَى لِلرَّضَاعِ؛ وَإِنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً فَنَفَقَةُ الرَّضَاعِ أَيْضًا مُسْتَحَقَّةٌ بِظَاهِرِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَهَا بِالرَّضَاعِ، وَلَيْسَتْ فِي هَذِهِ الْحَالِ زَوْجَةً وَلَا مُعْتَدَّةً مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} فَتَكُونُ مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَتَكُونُ النَّفَقَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ أُجْرَةَ الرَّضَاعِ؛ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ، فَتَكُونُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِالْحَيْضِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَصْحَابِنَا فِي وُجُوبِ نَفَقَةِ الرَّضَاعِ وَنَفَقَةِ الْعِدَّةِ مَعًا، فَفِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهَا تَسْتَحِقُّهُمَا مَعًا، وَفِي الْأُخْرَى أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ لِلرَّضَاعِ شَيْئًا مَعَ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ فَقَدْ حَوَتْ الْآيَةُ الدَّلَالَةَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِرَضَاعِ وَلَدِهَا فِي الْحَوْلَيْنِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يَسْتَرْضِعَ لَهُ غَيْرُهَا إذَا رَضِيَتْ بِأَنْ تُرْضِعَهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الَّذِي يَلْزَمُ الْأَبَ فِي نَفَقَةِ الرَّضَاعِ إنَّمَا هُوَ سَنَتَانِ.
وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَبَ لَا يُشَارِكُ فِي نَفَقَةِ الرَّضَاعِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ هَذِهِ النَّفَقَةَ عَلَى الْأَبِ لِلْأُمِّ وَهُمَا جَمِيعًا وَارِثَانِ، ثُمَّ جَعَلَ الْأَبَ أَوْلَى بِإِلْزَامِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمِّ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمِيرَاثِ، فَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي اخْتِصَاصِ الْأَبِ بِإِلْزَامِ النَّفَقَةِ دُونَ غَيْرِهِ.
كَذَلِكَ حُكْمُهُ فِي سَائِرِ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ نَفَقَةِ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ الزَّمْنَى يَخْتَصُّ هُوَ بِإِيجَابِهِ عَلَيْهِ دُونَ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ فِيهِ، لِدَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَيْهِ.
وقَوْله تَعَالَى: {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}.
يَقْتَضِي وُجُوبَ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ لَهَا فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ لِشُمُولِ الْآيَةِ لِسَائِرِ الْوَالِدَاتِ مِنْ الزَّوْجَاتِ وَالْمُطَلَّقَاتِ.
وقَوْله تَعَالَى: {بِالْمَعْرُوفِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ هُوَ عَلَى قَدْرِ حَالِ الرَّجُلِ فِي إعْسَارِهِ وَيَسَارِهِ؛ إذْ لَيْسَ مِنْ الْمَعْرُوفِ إلْزَامُ الْمُعْسِرِ أَكْثَرَ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيُمْكِنُهُ، وَلَا إلْزَامُ الْمُوسِرِ الشَّيْءَ الطَّفِيفَ.
وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهَا عَلَى مِقْدَارِ الْكِفَايَةِ مَعَ اعْتِبَارِ حَالِ الزَّوْجِ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَقِيبَ ذَلِكَ: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إلَّا وُسْعَهَا}، فَإِذَا اشْتَطَّتْ الْمَرْأَةُ وَطَلَبَتْ مِنْ النَّفَقَةِ أَكْثَرَ مِنْ الْمُعْتَادِ الْمُتَعَارَفِ لِمِثْلِهَا لَمْ تُعْطَ، وَكَذَلِكَ إذَا قَصَّرَ الزَّوْجُ عَنْ مِقْدَارِ نَفَقَةِ مِثْلِهَا فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لَمْ يَحِلَّ ذَلِكَ وَأُجْبِرَ عَلَى نَفَقَةِ مِثْلِهَا.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ بِطَعَامِهَا وَكُسْوَتِهَا؛ لِأَنَّ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْمُطَلَّقَةِ هِيَ أُجْرَةُ الرَّضَاعِ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى تَسْوِيغِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ؛ إذْ لَا تَوَصُّلَ إلَى تَقْدِيرِ النَّفَقَةِ بِالْمَعْرُوفِ إلَّا مِنْ جِهَةِ غَالِبِ الظَّنِّ وَأَكْثَرِ الرَّأْيِ؛ إذْ كَانَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا بِالْعَادَةِ، وَكُلُّ مَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الْعَادَةِ فَسَبِيلُهُ الِاجْتِهَادُ وَغَالِبُ الظَّنِّ؛ إذْ لَيْسَتْ الْعَادَةُ مَقْصُورَةً عَلَى مِقْدَارٍ وَاحِدٍ لَا زِيَادَةَ عَلَيْهِ وَلَا نُقْصَانَ.
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ اعْتِبَارُ حَالِهِ فِي إعْسَارِهِ وَيَسَارِهِ وَمِقْدَارِ الْكِفَايَةِ وَالْإِمْكَانِ بِقَوْلِهِ: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إلَّا وُسْعَهَا} وَاعْتِبَارُ الْوُسْعِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعَادَةِ.
وقَوْله تَعَالَى: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إلَّا وُسْعَهَا} يُوجِبُ بُطْلَانَ قَوْلِ أَهْلِ الْإِجْبَارِ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ اللَّهَ يُكَلِّفُ عِبَادَهُ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَإِكْذَابٌ لَهُمْ فِي نِسْبَتِهِمْ ذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ وَيَنْسُبُونَ إلَيْهِ مِنْ السَّفَهِ وَالْعَبَثِ عُلُوًّا كَبِيرًا.
قَوْله تَعَالَى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ}.
رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ قَالُوا: هُوَ الْمُضَارَّةُ فِي الرَّضَاعِ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمَ قَالَا: إذَا قَامَ الرَّضَاعُ عَلَى شَيْءٍ خُيِّرَتْ الْأُمُّ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَمَعْنَاهُ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا بِأَنْ لَا تُعْطَى إذَا رَضِيَتْ بِأَنْ تُرْضِعَهُ بِمِثْلِ مَا تُرْضِعُهُ بِهِ الْأَجْنَبِيَّةُ، بَلْ تَكُونُ هِيَ أَوْلَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فَجَعَلَ الْأُمَّ أَحَقَّ بِرَضَاعِ الْوَلَدِ هَذِهِ الْمُدَّةَ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهَا إذَا رَضِيَتْ بِأَنْ تُرْضِعَ بِمِثْلِ مَا تُرْضِعُ بِهِ غَيْرُهَا، لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ أَنْ يُضَارَّهَا فَيَدْفَعَهُ إلَى غَيْرِهَا؛ وَهُوَ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فَجَعَلَهَا أَوْلَى بِالرَّضَاعِ، ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} فَلَمْ يُسْقِطْ حَقَّهَا مِنْ الرَّضَاعِ إلَّا عِنْدَ التَّعَاسُرِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّهَا لَا تُضَارُّ بِوَلَدِهَا إذَا لَمْ تَخْتَرْ أَنْ تُرْضِعَهُ بِأَنْ يُنْتَزَعَ مِنْهَا، وَلَكِنَّهُ يُؤْمَرُ الزَّوْجُ بِأَنْ يُحْضِرَ الظِّئْرَ إلَى عِنْدِهَا حَتَّى تُرْضِعَهُ فِي بَيْتِهَا؛ وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا.
وَلَمَّا كَانَتْ الْآيَةُ مُحْتَمِلَةً لِلْمُضَارَّةِ فِي نَزْعِ الْوَلَدِ مِنْهَا وَاسْتِرْضَاعِ غَيْرِهَا، وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ، فَيَكُونُ الزَّوْجُ مَمْنُوعًا مِنْ اسْتِرْضَاعِ غَيْرِهَا إذَا رَضِيَتْ هِيَ بِأَنْ تُرْضِعَهُ بِأُجْرَةِ مِثْلِهَا وَهِيَ الرِّزْقُ وَالْكِسْوَةُ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِنْ لَمْ تُرْضِعْ أُجْبِرَ الزَّوْجُ عَلَى إحْضَارِ الْمُرْضِعَةِ حَتَّى تُرْضِعَهُ فِي بَيْتِهَا حَتَّى لَا يَكُونَ مُضَارًّا لَهَا بِوَلَدِهَا.
وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِإِمْسَاكِ الْوَلَدِ مَا دَامَ صَغِيرًا، وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْ الرَّضَاعِ بَعْدَمَا يَكُونُ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إلَى الْحَضَانَةِ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ إلَى الْأُمِّ بَعْدَ الرَّضَاعِ كَهِيَ قَبْلَهُ، فَإِذَا كَانَتْ فِي حَالِ الرَّضَاعِ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمُرْضِعَةُ غَيْرَهَا عَلِمْنَا أَنَّ فِي كَوْنِهِ عِنْدَ الْأُمِّ حَقًّا لَهَا؛ وَفِيهِ حَقٌّ لِلْوَلَدِ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّ الْأُمَّ أَرْفَقُ بِهِ وَأَحْنَى عَلَيْهِ.
وَذَلِكَ فِي الْغُلَامِ عِنْدَنَا إلَى أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ وَيَشْرَبَ وَحْدَهُ وَيَتَوَضَّأَ وَحْدَهُ، وَفِي الْجَارِيَةِ حَتَّى تَحِيضَ؛ لِأَنَّ الْغُلَامَ إذَا بَلَغَ إلَى الْحَدِّ الَّذِي يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى التَّأْدِيبِ وَيَعْقِلُهُ فَفِي كَوْنِهِ عِنْدَ الْأُمِّ دُونَ الْأَبِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ، وَالْأَبُ مَعَ ذَلِكَ أَقْوَمُ بِتَأْدِيبِهِ، وَهِيَ الْحَالُ الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ».
فَمَنْ كَانَ سِنُّهُ سَبْعًا فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ وَالتَّأْدِيبِ؛ لِأَنَّهُ يَعْقِلُهَا؛ فَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَدَبِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى تَعَلُّمِهِ.
وَفِي كَوْنِهِ عِنْدَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ، وَلَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَى الصَّغِيرِ فِيمَا يَكُونُ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَلَا ضَرَر عَلَيْهَا فِي كَوْنِهَا عِنْدَ الْأُمِّ إلَى أَنْ تَحِيضَ، بَلْ كَوْنُهَا عِنْدَهَا أَنْفَعَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى آدَابِ النِّسَاءِ، وَلَا تَزُولُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ عَنْهَا إلَّا بِالْبُلُوغِ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّهَا عَلَيْهَا بِالْوِلَادَةِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهَا فِي كَوْنِهَا عِنْدَهَا؛ فَلِذَلِكَ كَانَتْ أَوْلَى إلَى وَقْتِ الْبُلُوغِ، فَإِذَا بَلَغَتْ احْتَاجَتْ إلَى التَّحْصِينِ وَالْأَبُ أَقُومُ بِتَحْصِينِهَا، فَلِذَلِكَ كَانَ أَوْلَى بِهَا.
وَبِمِثْلِ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا وَصَفْنَا وَرَدَ الْأَثَرُ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عَلِيًّا اخْتَصَمَ هُوَ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي بِنْتِ حَمْزَةَ، وَكَانَتْ خَالَتُهَا تَحْتَ جَعْفَرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ادْفَعُوهَا إلَى خَالَتِهَا فَإِنَّ الْخَالَةَ وَالِدَةٌ» فَكَانَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُ جَعَلَ الْخَالَةَ أَحَقَّ مِنْ الْعَصَبَةِ كَمَا حَكَمَتْ الْآيَةُ بِأَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِإِمْسَاكِ الْوَلَدِ مِنْ الْأَبِ.
وَهَذَا أَصْلٌ فِي أَنَّ ذَوَاتَ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ أَوْلَى بِإِمْسَاكِ الصَّبِيِّ وَحَضَانَتِهِ مِنْ حَضَانَةِ الْعَصَبَةِ مِنْ الرِّجَالِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ مِنْهُمْ.
وَقَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ مَعَانِيَ: مِنْهَا أَنَّ الْخَالَةَ لَهَا حَقُّ الْحَضَانَةِ وَأَنَّهَا أَحَقُّ بِهِ مِنْ الْعَصَبَةِ، وَسَمَّاهَا وَالِدَةً، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ ذَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الصَّبِيِّ فَلَهَا هَذَا الْحَقُّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْحَقُّ مَقْصُورًا عَلَى الْوِلَادَةِ.
وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: «أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ بِابْنٍ لَهَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حِينَ كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً وَثَدْي سِقَاءً وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً أَرَادَ أَبُوهُ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنِّي فَقَالَ: أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَتَزَوَّجِي» وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ عَلِيٌّ وَأَبُو بَكْرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فِي آخَرِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُخَيَّرُ الْغُلَامُ إذَا أَكَلَ وَشَرِبَ وَحْدَهُ، فَإِنْ اخْتَارَ الْأَبَ كَانَ أَوْلَى بِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَارَ الْأُمَّ كَانَ عِنْدَهَا.
وَرُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «خَيَّرَ غُلَامًا بَيْنَ أَبَوَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْت» وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ قَالَ: شَهِدْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَيَّرَ صَبِيًّا بَيْنَ أَبَوَيْهِ.
فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى غُلَامًا بَعْدَ الْبُلُوغِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ خَيَّرَ غُلَامًا وَقَالَ: لَوْ قَدْ بَلَغَ هَذَا يَعْنِي أَخًا لَهُ صَغِيرًا لَخَيَّرْتُهُ.
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ كَبِيرًا.
وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ امْرَأَةً خَاصَمَتْ زَوْجَهَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ: إنَّهُ طَلَّقَنِي وَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَنْزِعَ مِنِّي ابْنِي وَقَدْ نَفَعَنِي وَسَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَهِمَا عَلَيْهِ فَقَالَ: مَنْ يُحَاجُّنِي فِي ابْنِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا غُلَامُ هَذِهِ أُمُّك وَهَذَا أَبُوك فَاخْتَرْ أَيَّهمَا شِئْت فَأَخَذَ الْغُلَامُ بِيَدِ أُمِّهِ»؛ وَقَوْلُ الْأُمِّ قَدْ سَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَبِيرًا.
وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ أَنَّهُ لَا اخْتِيَارَ لِلصَّغِيرِ فِي سَائِرِ حُقُوقِهِ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَبَوَيْنِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا يُخَيَّرُ الْغُلَامُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَارُ إلَّا شَرَّ الْأَمْرَيْنِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَارُ اللَّعِبَ وَالْإِعْرَاضَ عَنْ تَعَلُّمِ الْأَدَبِ وَالْخَيْرِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَبَ أَقْوَمُ بِتَأْدِيبِهِ وَتَعْلِيمِهِ، وَأَنَّ فِي كَوْنِهِ عِنْدَ الْأُمِّ ضَرَرًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُنَشَّأُ عَلَى أَخْلَاقِ النِّسَاءِ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} فَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَضَارِّ نَهْيُ الرَّجُلِ أَنْ يُضَارَّهَا بِوَلَدِهَا وَنَهْيُ الْمَرْأَةِ أَيْضًا أَنْ تُضَارَّ بِوَلَدِهِ.
وَالْمُضَارَّةُ مِنْ جِهَتِهَا قَدْ تَكُونُ فِي النَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا، فَأَمَّا فِي النَّفَقَةِ فَأَنْ تَشْتَطَّ عَلَيْهِ وَتَطْلُبَ فَوْقَ حَقِّهَا، وَفِي غَيْرِ النَّفَقَةِ أَنْ تَمْنَعَهُ مِنْ رُؤْيَتِهِ وَالْإِلْمَامِ بِهِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَغْتَرِبَ بِهِ وَتُخْرِجَهُ عَنْ بَلَدِهِ فَتَكُونَ مُضَارَّةً لَهُ بِوَلَدِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُرِيدَ أَنْ لَا يُطِيعَهُ وَتَمْتَنِعَ مِنْ تَرْكِهِ عِنْدَهُ.
فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا مُحْتَمَلَةٌ يَنْطَوِي عَلَيْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} فَوَجَبَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهَا.
قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} هُوَ عَطْفٌ عَلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، مِنْ عِنْدِ قَوْلِهِ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} لِأَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ مَعْطُوفٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ بِالْوَاوِ، وَهِيَ حَرْفُ الْجَمْعِ، فَكَانَ الْجَمِيعُ مَذْكُورًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ، وَالنَّهْيُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ مُضَارَّةِ الْآخَرِ عَلَى مَا اعْتَوَرَهَا مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا.
ثُمَّ قَالَ اللَّهُ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} يَعْنِي النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ وَأَنْ لَا يُضَارَّهَا وَلَا تُضَارَّهُ؛ إذْ كَانَتْ الْمُضَارَّةُ قَدْ تَكُونُ فِي النَّفَقَةِ كَمَا تَكُونُ فِي غَيْرِهَا، فَلَمَّا قَالَ عَطْفًا عَلَى ذَلِكَ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا عَلَى الْوَارِثِ جَمِيعَ الْمَذْكُورِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَالْحَسَنِ وَقَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قَالُوا: النَّفَقَةُ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ: عَلَيْهِ أَنْ لَا يُضَارَّ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُمَا عَلَيْهِ أَنْ لَا يُضَارَّ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَرَيَا النَّفَقَةَ وَاجِبَةً عَلَى الْوَارِثِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَّةَ قَدْ تَكُونُ فِي النَّفَقَةِ كَمَا تَكُونُ فِي غَيْرِهَا، فَعَوْدُهُ عَلَى الْمُضَارَّةِ لَا يَنْفِي إلْزَامَهُ النَّفَقَةَ؛ وَلَوْلَا أَنَّ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ مَا كَانَ لَتَخْصِيصِهِ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُضَارَّةِ فَائِدَةٌ؛ إذْ هُوَ فِي ذَلِكَ كَالْأَجْنَبِيِّ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمُضَارَّةُ فِي النَّفَقَةِ وَفِي غَيْرِهَا قَوْله تَعَالَى عَقِيبَ ذَلِكَ: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُضَارَّةَ قَدْ انْتَظَمَتْ الرَّضَاعَ وَالنَّفَقَةَ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ الصَّغِيرِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْعَصَبَاتِ، وَذَهَبَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ النَّفَقَةَ عَلَى الْأَبِ دُونَ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ تَخْتَصَّ بِهَا الْعَصَبَاتُ بِمَنْزِلَةِ الْعَقْلِ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: النَّفَقَةُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ عَلَى الْوَارِثِ أَنْ لَا يُضَارَّهَا.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَأَى عَلَى الْوَارِثِ النَّفَقَةَ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَّةَ تَكُونُ فِيهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا نَفَقَةَ عَلَى أَحَدٍ إلَّا الْأَبَ خَاصَّةً وَلَا تَجِبُ عَلَى الْجَدِّ وَعَلَى ابْنِ الِابْنِ لِلْجَدِّ، وَتَجِبُ عَلَى الِابْنِ لِلْأَبِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَجِبُ نَفَقَةُ الصَّغِيرِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ قَرَابَتِهِ إلَّا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ وَالْجَدَّ وَوَلَدَ الْوَلَدِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} وَاتِّفَاقُ السَّلَفِ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ إيجَابِ النَّفَقَةِ يَقْضِيَانِ بِفَسَادِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} عَائِدٌ عَلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِينَ فِي النَّفَقَةِ وَالْمُضَارَّةِ، وَغَيْرُ جَائِزٌ لِأَحَدٍ تَخْصِيصُهُ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ السَّلَفِ فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْوَرَثَةِ.
وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ الْأَخَ وَالْعَمَّ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمَا النَّفَقَةُ، وَقَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ خَارِجٌ عَنْ قَوْلِ الْجَمِيعِ.
وَمِنْ حَيْثُ وَجَبَ عَلَى الْأَبِ وَهُوَ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَجَبَ عَلَى مَنْ هُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} فَذَكَرَ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَجَعَلَ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ مُسْتَحِقُّونَ لِذَلِكَ، لَوْلَاهُ لَمَا أَبَاحَهُ لَهُمْ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ذُكِرَ فِيهِ: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} وَلَا يَسْتَحِقَّانِ النَّفَقَةَ.
قِيلَ لَهُ: هُوَ مَنْسُوخٌ عَنْهُمْ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَمْ يَثْبُتْ نَسْخُ ذَوَى الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَأَوْجَبُوا النَّفَقَةَ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ إذَا كَانَ وَارِثًا قِيلَ لَهُ: الظَّاهِرُ يَقْتَضِيهِ وَخَصَّصْنَاهُ بِدَلَالَةٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} مُوجِبًا لِلنَّفَقَةِ عَلَى كُلِّ وَارِثٍ، فَالْوَاجِبُ إيجَابُ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَبِ وَالْأُمِّ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمَا مِنْهُ.
قِيلَ لَهُ: إنَّمَا الْمُرَادُ وَعَلَى الْوَارِث غَيْرِ الْأَبِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَبِ فِي أَوَّلِ الْخِطَابِ بِإِيجَابِ جَمِيعِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ دُونَ الْأُمِّ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْأَبَ مَعَ سَائِرِ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ نَسْخَ مَا قَدْ تَقَدَّمَ، وَغَيْرُ جَائِزٍ وُجُودُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي خِطَابٍ؛ إذْ كَانَ النَّسْخُ غَيْرُ جَائِزٍ إلَّا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْحُكْمِ وَالتَّمْكِينِ مِنْ الْفِعْلِ.
وَذَكَرَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ إذَا وُلِدَ مَوْلُودٌ وَأَبُوهُ مَيِّتٌ أَوْ مَعْدُومٌ فَعَلَى أُمِّهِ أَنْ تُرْضِعَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} فَلَا يَسْقُطُ عَنْهَا بِسُقُوطِ مَا كَانَ يَجِبُ عَلَى الْأَبِ، فَإِنْ انْقَطَعَ لَبَنُهَا بِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهَا أَنْ تَسْتَرْضِعَ فَلَمْ تَفْعَلْ وَخَافَتْ عَلَيْهِ الْمَوْتَ وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تَسْتَرْضِعَ لَا مِنْ جِهَةِ مَا عَلَى الْأَبِ لَكِنْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ إعَانَةَ مَنْ يَخَافُ عَلَيْهِ إذَا أَمْكَنَهُ.
وَهَذَا الْفَصْلُ مِنْ كَلَامِهِ يَشْتَمِلُ عَلَى ضُرُوبٍ مِنْ الِاخْتِلَافِ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَوْجَبَ الرَّضَاعَ عَلَى الْأُمِّ لِقَوْلِهِ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} وَأَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ مَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، فَإِنَّمَا جَعَلَ عَلَيْهَا الرَّضَاعَ بِحِذَاءِ مَا أَوْجَبَ لَهَا مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ إلْزَامُهَا ذَلِكَ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ لُزُومَ النَّفَقَةِ لِلْأَبِ بَدَلًا مِنْ الرَّضَاعِ يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَنَافِعُ فِي الْحُكْمِ حَاصِلَةً لِلْأَبِ مِلْكًا بِاسْتِحْقَاقِ الْبَدَلِ عَلَيْهِ، فَاسْتَحَالَ إيجَابُهَا عَلَى الْأُمِّ، وَقَدْ أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَبِ بِإِلْزَامِهَا بَدَلَهَا مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ.
وَالثَّانِي: قوله: {يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} لَيْسَ فِيهِ إيجَابُ الرَّضَاعِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا جَعَلَ بِهِ الرَّضَاعَ حَقَّا لَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهَا لَا تُجْبَرُ عَلَى الرَّضَاعِ إذَا أَبَتْ وَكَانَ الْأَبُ حَيَّا؛ وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِالْآيَةِ عَلَى إيجَابِ الرَّضَاعِ عَلَيْهَا فِي حَالِ فَقْدِ الْأَبِ، وَهُوَ لَمْ يَقْتَضِ إيجَابَهُ عَلَيْهَا فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ.
ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهُ إنْ انْقَطَعَ لَبَنُهَا بِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَإِنْ أَمْكَنَهَا أَنْ تَسْتَرْضِعَ.
وَهَذَا أَيْضًا مُنْتَقَضٌ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ مَنَافِعُ الرَّضَاعِ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهَا لِلْوَلَدِ فِي حَالِ فَقْدِ الْأَبِ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَيْهَا فِي مَالِهَا إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهَا الرَّضَاعُ، كَمَا وَجَبَ عَلَى الْأَبِ اسْتِرْضَاعُهُ.
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَنَافِعُ الرَّضَاعِ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهَا فِي مَالِهَا، فَغَيْرُ جَائِزٍ إلْزَامُهَا الرَّضَاعَ؛ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ لُزُومِهَا مَنَافِعَ الرَّضَاعِ وَبَيْنَ لُزُومِ ذَلِكَ فِي مَالِهَا إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهَا؟ ثُمَّ نَاقَضَ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يُلْزِمْهَا نَفَقَتَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الرَّضَاعِ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الرَّضَاعِ وَبَيْنَ النَّفَقَةِ بَعْدَ الرَّضَاعِ، وَهُمَا جَمِيعًا مِنْ نَفَقَةِ الصَّغِيرِ؛ فَمِنْ أَيْنَ أَوْجَبَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا؟ وَلَوْ جَازَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَجَازَ مِثْلُهُ فِي الْأَبِ، حَتَّى يُقَالَ: إنَّ الَّذِي يَلْزَمُهُ إنَّمَا هُوَ نَفَقَةُ الرَّضَاعِ، فَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الرَّضَاعِ فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ لِلصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ نَفَقَتَهَا وَكِسْوَتَهَا لِلرَّضَاعِ.
ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهُ إذَا أَمْكَنَهَا أَنْ تَسْتَرْضِعَ وَخَافَتْ عَلَيْهِ الْمَوْتَ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَرْضِعَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُلْزِمُهَا ذَلِكَ لَوْ خَافَتْ عَلَيْهِ الْمَوْتَ.
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَكَيْفَ خَصَّهَا بِإِلْزَامِهَا ذَلِكَ دُونَ جِيرَانِهَا وَدُونَ سَائِرِ النَّاسِ؟ وَهَذَا كُلُّهُ تَخْلِيطٌ وَتَشَهٍّ غَيْرُ مَقْرُونٍ بِدَلَالَةٍ وَلَا مُسْتَنِدٍ إلَى شُبْهَةٍ.
وَقَدْ حُكِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ النَّفَقَةَ إلَّا عَلَى الْأَبِ لِلِابْنِ وَعَلَى الِابْنِ لِلْأَبِ، وَلَا يُوجِبُهَا لِلْجَدِّ عَلَى ابْنِ الِابْنِ.
وَهُوَ قَوْلٌ خَارِجٌ عَنْ أَقَاوِيلِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ جَمِيعًا لَا نَعْلَمُ عَلَيْهِ مُوَافِقًا؛ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ ظَاهِرَ الْكِتَابِ يَرُدُّهُ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} إلَى قوله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} وَالْجَدُّ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّهُ أَبٌ؛ قَالَ اللَّهُ تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ} وَهُوَ مَأْمُورٌ بِمُصَاحَبَتِهِ بِالْمَعْرُوفِ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ مِنْ الصُّحْبَةِ بِالْمَعْرُوفِ تَرْكُهُ جَائِعًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى سَدِّ جَوْعَتِهِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} فَذَكَرَ بُيُوتَ هَؤُلَاءِ الْأَقْرِبَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْ بَيْتَ الِابْنِ وَلَا ابْنِ الِابْنِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {مِنْ بُيُوتِكُمْ} قَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: {أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك} فَأَضَافَ إلَيْهِ مِلْكَ الِابْنِ كَمَا أَضَافَ إلَيْهِ بَيْتَ الِابْنِ وَاقْتَصَرَ عَلَى إضَافَةِ الْبُيُوتِ إلَيْهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بُيُوتَ الِابْنِ وَابْنِ الِابْنِ، أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَعْلُومًا قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ غَيْرُ مَحْظُورٍ عَلَيْهِ مَالُ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَا وَجْهَ لِقَوْلِ الْقَائِلِ: لَا جُنَاحَ عَلَيْك فِي أَكْلِ مَالِ نَفْسِك؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} هِيَ بُيُوتُ الْأَبْنَاءِ وَأَبْنَاءِ الْأَبْنَاءِ؛ إذْ لَمْ يَذْكُرْهُمَا جَمِيعًا كَمَا ذَكَرَ سَائِرَ الْأَقْرِبَاءِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ مُوجِبُو النَّفَقَةِ عَلَى الْوَرَثَةِ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: هِيَ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِ مِنْ الصَّبِيِّ إذَا كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، وَلَا نَفَقَةَ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ وَارِثًا.
وَلِذَلِكَ أَوْجَبُوا النَّفَقَةَ عَلَى الْخَالِ وَالْمِيرَاثَ لِابْنِ الْعَمِّ؛ لِأَنَّ ابْنَ الْعَمِّ لَيْسَ بِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَالْخَالُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا فِي هَذِهِ الْحَالِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ وَارِثًا فِي حَالِ الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ لَا يَكُونُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُدْرَى مَنْ يَرِثُهُ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا الصَّبِيُّ يَرِثُ هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ النَّفَقَةُ بِمَوْتِهِ قَبْلَهُ، وَجَائِزٌ أَنْ يَحْدُثَ لَهُ مِنْ الْوَرَثَةِ مِنْ يَحْجُبُ مَنْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ.
وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ حُصُولَ الْمِيرَاثِ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: النَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ وَارِثٍ، ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ كَانَ أَوْ غَيْرَ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، فَيُوجِبُهَا عَلَى ابْنِ الْعَمِّ دُونَ الْخَالِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ وَإِنْ كَانَ وَارِثًا، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ لَا تَجِبُ عَلَيْهَا نَفَقَةُ زَوْجِهَا الصَّغِيرِ وَهِيَ مِمَّنْ يَرِثُهُ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ شَرْطٌ فِي إيجَابِ النَّفَقَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو تَوْقِيتُ الْحَوْلَيْنِ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرًا لِمُدَّةِ الرَّضَاعِ الْمُوجِبِ لِلتَّحْرِيمِ، أَوْ لِمَا يَلْزَمُ الْأَبَ مِنْ نَفَقَةِ الرَّضَاعِ؛ فَلَمَّا قَالَ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْحَوْلَيْنِ: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحَوْلَيْنِ لَيْسَا تَقْدِيرًا لِمُدَّةِ الرَّضَاعِ الْمُوجِبِ لِلتَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ الْفِصَالُ الَّذِي عَلَّقَهُ بِإِرَادَتِهِمَا بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ، وَإِذَا كَانَ الْفِصَالُ مُعَلَّقًا بِتَرَاضِيهِمَا وَتَشَاوُرِهِمَا بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ فَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْحَوْلَيْنِ لَيْسَ هُوَ مِنْ جِهَةِ تَوْقِيتِ نِهَايَةِ الرَّضَاعِ الْمُوجِبِ لِلتَّحْرِيمِ وَأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُمَا رَضَاعٌ.
وَقَدْ رَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا حَرَجَ إنْ أَرَادَا أَنْ يَفْطِمَاهُ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ أَوْ بَعْدَهُ}.
فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا} عَلَى مَا قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ وَبَعْدَهُ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} وَظَاهِرُهُ الِاسْتِرْضَاعُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى ذِكْرِ الْفِصَالِ الَّذِي عَلَّقَهُ بِتَرَاضِيهِمَا، فَأَبَاحَهُ لَهُمَا وَأَبَاحَ لِلْأَبِ الِاسْتِرْضَاعَ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا أَبَاحَ لَهُمَا الْفِصَالَ إذَا كَانَ فِيهِ صَلَاحُ الصَّبِيِّ.
وَدَلَّ مَا وَصَفْنَا عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْحَوْلَيْنِ إنَّمَا هُوَ تَوْقِيتٌ لِمَا يَلْزَمُ الْأَبَ فِي الْحُكْمِ مِنْ نَفَقَةِ الرَّضَاعِ وَيُجْبِرُهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي وَقْتِ الرَّضَاعِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ كَانَ بَيْنَ السَّلَفِ اخْتِلَافٌ فِي رَضَاعَةِ الْكَبِيرِ، فَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَرَى رَضَاعَ الْكَبِيرِ مُوجِبًا لِلتَّحْرِيمِ كَرَضَاعِ الصَّغِيرِ، وَكَانَتْ تَرْوِي فِي ذَلِكَ حَدِيثَ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَسَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ وَهِيَ امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَة: أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَيْك» وَكَانَتْ عَائِشَةُ إذَا أَرَادَتْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا رَجُلٌ أَمَرَتْ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومٍ أَنْ تُرْضِعَهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ وَأَبَى سَائِرُ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَقُلْنَ: لَعَلَّ هَذِهِ كَانَتْ رُخْصَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ.
وَقَدْ روي: «أَنَّ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَة مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ عَلَيَّ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْضِعِيهِ يَذْهَبْ مَا فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ».
فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَاصًّا لِسَالِمٍ كَمَا تَأَوَّلَهُ سَائِرُ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا خَصَّ أَبَا زِيَادِ بْنِ دِينَارٍ بِالْجَذَعَةِ فِي الْأُضْحِيَّةِ وَأَخْبَرَ أَنَّهَا لَا تُجْزِي عَنْ أَحَدٍ بَعْدَهُ.
وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ لَا يَحْرُمُ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا رَجُلٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُنْظُرْنَ مَنْ إخْوَانِكُنَّ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ».
فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الرَّضَاعِ مَقْصُورًا عَلَى حَالِ الصِّغَرِ وَهِيَ الْحَالُ الَّتِي يَسُدُّ اللَّبَنُ فِيهَا جَوْعَتَهُ وَيَكْتَفِي فِي غِذَائِهِ بِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى رَضَاعَ الْكَبِيرِ؛ وَرُوِيَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ، وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ قَالَ: قَدِمَ رَجُلٌ بِامْرَأَتِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ، فَوَضَعَتْ فَتَوَرَّمَ ثَدْيُهَا، فَجَعَلَ يَمُجُّهُ وَيَصُبُّهُ، فَدَخَلَ فِي بَطْنِهِ جَرْعَةٌ مِنْهُ، فَسَأَلَ أَبَا مُوسَى فَقَالَ: بَانَتْ مِنْك فَأَتَى ابْنَ مَسْعُودٍ فَأَخْبَرَهُ فَفَصَلَ، فَأَقْبَلَ بِالْأَعْرَابِيِّ إلَى الْأَشْعَرِيِّ فَقَالَ: أَرَضِيعًا تَرَى هَذَا الْأَشْمَطَ إنَّمَا يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يُنْبِتُ اللَّحْمَ وَالْعَظْمَ فَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ وَهَذَا الْحَبْرُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ إلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ وَهَذَا الْحَبْرُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ وَكَانَ بَاقِيًا عَلَى مُخَالَفَتِهِ وَأَنَّ مَا أَفْتَى بِهِ حَقٌّ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ لَا يُحَرِّمُ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ قَالَ بِرَضَاعِ الْكَبِيرِ إلَّا شَيْءٌ يُرْوَى عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ يَرْوِيهِ عَنْهُ أَبُو صَالِحٍ أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ يُحَرِّمُ وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحَرِّمُ، وَهُوَ مَا رَوَى الْحَجَّاجُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَالدَّمَ» وَقَدْ رَوَى حَرَامُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ ابْنَيْ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُتْمَ بَعْدَ حُلُمٍ وَلَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ».
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ: «إنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ»، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ» وَهَذَا يَنْفِي كَوْنَ الرَّضَاعِ فِي الْكَبِيرِ.
وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثُ عَائِشَةَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي رَضَاعِ الْكَبِيرِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ مَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَأْمُرُ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنْ تُرْضِعَ الصِّبْيَانَ حَتَّى يَدْخُلُوا عَلَيْهَا إذَا صَارُوا رِجَالًا.
فَإِذَا ثَبَتَ شُذُوذُ قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ رَضَاعَ الْكَبِيرِ، فَحَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ غَيْرُ مُحَرِّمٍ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي مُدَّةِ ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَا كَانَ مِنْ رَضَاعٍ فِي الْحَوْلَيْنِ وَبَعْدَهُمَا بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَقَدْ فُطِمَ أَوْ لَمْ يُفْطَمْ فَهُوَ يُحَرِّمُ، وَبَعْدَ ذَلِكَ لَا يُحَرِّمُ فُطِمَ أَوْ لَمْ يُفْطَمْ.
وَقَالَ زُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ: مَا دَامَ يَجْتَزِئُ بِاللَّبَنِ وَلَمْ يُفْطَمْ فَهُوَ رَضَاعٌ، وَإِنْ أَتَى عَلَيْهِ ثَلَاثُ سِنِينَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ: يُحَرِّمُ فِي الْحَوْلَيْنِ وَلَا يُحَرِّمُ بَعْدَهُمَا، وَلَا يُعْتَبَرُ الْفِطَامُ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْوَقْتُ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: قَلِيلُ الرَّضَاعِ وَكَثِيرُهُ مُحَرِّمٌ فِي الْحَوْلَيْنِ، وَمَا كَانَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يُحَرِّمُ قَلِيلُهُ وَلَا كَثِيرُهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: الرَّضَاعُ حَوْلَانِ وَشَهْرٌ أَوْ شَهْرَانِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى إرْضَاعِ أُمِّهِ إيَّاهُ إنَّمَا يُنْظَرُ إلَى الْحَوْلَيْنِ وَشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ قَالَ: وَإِنْ فَصَلْته قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ وَأَرْضَعَتْهُ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ فَهُوَ فَطِيمٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ رَضَاعًا إذَا كَانَ قَدْ اسْتَغْنَى قَبْلَ ذَلِكَ عَنْ الرَّضَاعِ فَلَا يَكُونُ مَا أُرْضِعَ بَعْدَهُ رَضَاعًا.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إذَا فُطِمَ لِسَنَةٍ وَاسْتَمَرَّ فِطَامُهُ فَلَيْسَ بَعْدَهُ رَضَاعٌ، وَلَوْ أُرْضِعَ ثَلَاثَ سِنِينَ لَمْ يُفْطَمْ لَمْ يَكُنْ رَضَاعًا بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ أَقَاوِيلُ، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ، وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ: لَا رَضَاعَ إلَّا مَا كَانَ فِي الصِّغَرِ.
وَهَذَا يَدُلُّ مِنْ قَوْلِهِمْ عَلَى تَرْكِ اعْتِبَارِ الْحَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا عَلَّقَ الْحُكْمَ بِالْفِصَالِ، وَعُمَرَ وَابْنُهُ بِالصِّغَرِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ.
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: إنَّمَا يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا كَانَ فِي الثَّدْيِ قَبْلَ الْفِطَامِ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعِ إلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ وَكَانَ فِي الثَّدْيِ قَبْلَ الْفِطَامِ فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِمَا كَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ وَبِمَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ، وَهُوَ نَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: إنَّمَا يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَالدَّمَ.
فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَذْهَبِهِمْ اعْتِبَارُ الْحَوْلَيْنِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا: «لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ» وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْحَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَوْلَانِ تَوْقِيتًا لَمَا قَالَ: «الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ» وَلَقَالَ: الرَّضَاعَةُ فِي الْحَوْلَيْنِ، فَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْ الْحَوْلَيْنِ وَذَكَرَ الْمَجَاعَةَ وَمَعْنَاهَا أَنَّ اللَّبَنَ إذَا كَانَ يَسُدُّ جَوْعَتَهُ وَيَقْوَى عَلَيْهِ بَدَنُهُ فَالرَّضَاعَةُ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ فَاقْتَضَى ظَاهِرُ ذَلِكَ صِحَّةَ الرَّضَاعِ الْمُوجِبِ لِلتَّحْرِيمِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ.
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ» وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّهُ إذَا فُصِلَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ أَنْ يَنْقَطِعَ حُكْمُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الرَّضَاعَةُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ» دَلَالَتُهُ عَلَى نَفْيِ تَوْقِيتِ الْحَوْلَيْنِ بِمُدَّةِ الرَّضَاعِ لِدَلَالَةِ الْأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُ: لَسْت أَثِقُ بِصِحَّةِ النَّقْلِ فِيهِ وَهُوَ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} فَإِنْ وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَرَضَاعُهُ حَوْلَانِ كَامِلَانِ، وَإِنْ وَلَدَتْ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ فَأَحَدٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا، وَإِنْ وَلَدَتْ لِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ فَثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا يُعْتَبَرُ فِيهِ تَكْمِلَةُ ثَلَاثِينَ شَهْرًا بِالْحَمْلِ وَالْفِصَالِ جَمِيعًا؛ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ بَعْدَهُمْ اعْتَبَرَ ذَلِكَ.
وَلَمَّا كَانَتْ أَحْوَالُ الصِّبْيَانِ تَخْتَلِفُ فِي الْحَاجَةِ إلَى الرَّضَاعِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَغْنِي عَنْهُ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مِنْ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلَيْنِ، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى نَفْيِ الرَّضَاعِ لِلْكَبِيرِ وَثُبُوتِ الرَّضَاعِ لِلصَّغِيرِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ الرِّوَايَةِ فِيهِ عَنْ السَّلَفِ، وَلَمْ يَكُنْ الْحَوْلَانِ حَدًّا لِلصَّغِيرِ؛ إذْ لَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ أَنْ يُسَمِّيَهُ صَغِيرًا وَإِنْ أَتَى عَلَيْهِ حَوْلَانِ، عَلِمْنَا أَنَّ الْحَوْلَيْنِ لَيْسَ بِتَوْقِيتٍ لِمُدَّةِ الرَّضَاعِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ: {الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ} وَقَالَ: {الرَّضَاعَةُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ} فَقَدْ اعْتَبَرَ مَعْنًى تَخْتَلِفُ فِيهِ أَحْوَالُ الصِّغَارِ وَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ أَنَّهُمْ قَدْ يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ بِمُضِيِّ الْحَوْلَيْنِ؟ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْحَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ.
ثُمَّ مِقْدَارُ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُ تَحْدِيدٌ بَيْنَ الْحَالِ الَّتِي يَكْتَفِي فِيهَا بِاللَّبَنِ فِي غِذَائِهِ وَيَنْبُتُ عَلَيْهِ لَحْمُهُ، وَبَيْنَ الِانْتِقَالِ إلَى الْحَالِ الَّتِي يَكْتَفِي فِيهَا بِالطَّعَامِ وَيَسْتَغْنِي عَنْ اللَّبَنِ؛ وَكَانَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ، وَذَلِكَ اجْتِهَادٌ فِي التَّقْدِيرِ؛ وَالْمَقَادِيرُ الَّتِي طَرِيقُهَا الِاجْتِهَادُ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَى الْقَائِلِ بِهَا سُؤَالٌ نَحْوُ تَقْوِيمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ بِمَقَادِيرِهَا تَوْقِيتٌ، وَتَقْدِيرِ مُتْعَةِ النِّسَاءِ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ، لَيْسَ لِأَحَدٍ مُطَالَبَةُ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَقَادِيرِ بِإِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ.
فَهَذَا أَصْلٌ صَحِيحٌ فِي هَذَا الْبَابِ مَسَائِلُهُ فِيهِ عَلَى مِنْهَاجٍ وَاحِدٍ، وَنَظِيرُهُ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَدِّ الْبُلُوغِ: إنَّهُ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً، وَإِنَّ الْمَالَ لَا يُدْفَعُ إلَى الْبَالِغِ الَّذِي لَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُهُ إلَّا بَعْدَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً فِي نَظَائِرَ لِذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي طَرِيقُ إثْبَاتِ الْمَقَادِيرِ فِيهَا الِاجْتِهَادُ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَإِنْ كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ فَلابد مِنْ جِهَةٍ يَغْلِبُ مَعَهَا فِي النَّفْسِ اعْتِبَارُ هَذَا الْمِقْدَارِ بِعَيْنِهِ دُونَ غَيْرِهِ، فَمَا الْمَعْنَى الَّذِي أَوْجَبَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ اعْتِبَارَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ دُونَ سَنَةٍ تَامَّةٍ عَلَى مَا قَالَ زُفَرُ؟ قِيلَ لَهُ: أَحَدُ مَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} ثُمَّ قَالَ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} فَعُقِلَ مِنْ مَفْهُومِ الْخِطَابَيْنِ كَوْنُ الْحَمْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ جَازَتْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ إلَى تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ؛ إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ الْحَمْلَ قَدْ يَكُونُ حَوْلَيْنِ، وَلَا يَكُونُ عِنْدَنَا الْحَمْلُ أَكْثَرَ مِنْهُمَا فَلَا يَخْرُجُ الْحَمْلُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَوْلَيْنِ، كَذَلِكَ الْفِصَالُ لَا يَخْرُجُ مِنْ جُمْلَةِ ثَلَاثِينَ شَهْرًا؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا قَدْ انْتَظَمَتْهُمَا الْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}.
وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ فِي ذَلِكَ: لَمَّا كَانَ الْحَوْلَانِ هُمَا الْوَقْتُ الْمُعْتَادُ لِلْفِطَامِ وَقَدْ جَازَتْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرْنَا، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ الِانْتِقَالِ مِنْ غِذَاءِ اللَّبَنِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ إلَى غِذَاءِ الطَّعَامِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، كَمَا كَانَتْ مُدَّةُ انْتِقَالِ الْوَلَدِ فِي بَطْنِ الْأُمِّ إلَى غِذَاءِ الطَّعَامِ بِالْوِلَادَةِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَذَلِكَ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَوْله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} نَصَّ عَلَى أَنَّ الْحَوْلَيْنِ تَمَامُ الرَّضَاعِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ رَضَاعٌ.
قِيلَ لَهُ إطْلَاقُ لَفْظِ الْإِتْمَامِ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ مُدَّةَ الْحَمْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فِي قوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} وقَوْله تَعَالَى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}؟ فَجَعَلَ مَجْمُوعُ الْآيَتَيْنِ الْحَمْلَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ لَمْ تَمْتَنِعْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، فَكَذَلِكَ ذِكْرُ الْحَوْلَيْنِ لِلرَّضَاعِ غَيْرُ مَانِعٍ جَوَازَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمَا؛ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» وَلَمْ تَمْتَنِعْ زِيَادَةُ الْفَرْضِ عَلَيْهَا.
وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ تَقْدِيرٌ لِمَا يَلْزَمُ الْأَبَ مِنْ أُجْرَةِ الرَّضَاعِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُجْبَرٍ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُمَا، لِإِثْبَاتِهِ الرَّضَاعَ بِتَرَاضِيهِمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فَلَمَّا ثَبَتَ الرَّضَاعُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ التَّحْرِيمِ بِهِ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَيْهِمَا.
فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا اعْتَبَرَتْ الْفِطَامَ عَلَى مَا اعْتَبَرَهُ مَالِكٌ فِي الْحَوْلَيْنِ فِي حَالِ اسْتِغْنَاءِ الصَّبِيِّ عَنْ اللَّبَنِ بِالطَّعَامِ، بِدَلَالَةِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ» وَبِمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ فِيهِ عَلَى نَحْوِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِمَّا يَدُلُّ كُلُّهُ عَلَى اعْتِبَارِ الْفِطَامِ؟ قِيلَ لَهُ: لَوْ وَجَبَ ذَلِكَ لَوَجَبَ اعْتِبَارُ حَالِ الصَّبِيِّ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ فِي حَاجَتِهِ إلَى اللَّبَنِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ مِنْ الصِّبْيَانِ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى الرَّضَاعِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ دَلَّ عَلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِهِ فِي الْحَوْلَيْنِ، وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ مُعَلَّقًا بِالْوَقْتِ دُونَ غَيْرِهِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ»؟ قِيلَ لَهُ: الْمَشْهُورُ عَنْهُ: «لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ» فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ أَصْلُ الْحَدِيثِ وَأَنَّ مَنْ ذَكَرَ الْحَوْلَيْنِ حَمَلَهُ عَلَى الْمَعْنَى وَحْدَهُ.
وَأَيْضًا لَوْ ثَبَتَ هَذَا اللَّفْظُ احْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ أَيْضًا: لَا رَضَاعَ عَلَى الْأَبِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ؛ عَلَى نَحْوِ تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْحَوْلَانِ هُمَا مُدَّةُ الرَّضَاعِ وَبِهِمَا يَقَعُ الْفِصَالُ لَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا} وَهَذَا الْقَوْلُ يَدُلُّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى أَنَّ الْحَوْلَيْنِ لَيْسَا تَوْقِيتًا لِلْفِصَالِ: أَحَدُهُمَا: ذِكْرُهُ لِلْفِصَالِ مَنْكُورًا فِي قَوْله تَعَالَى: {فِصَالًا} وَلَوْ كَانَ الْحَوْلَانِ فِصَالًا لَقَالَ الْفِصَالَ حَتَّى يَرْجِعَ ذِكْرُ الْفِصَالِ إلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ مَعْهُودٌ مُشَارٌ إلَيْهِ، فَلَمَّا أَطْلَقَ فِيهِ لَفْظَ النَّكِرَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْحَوْلَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: تَعْلِيقُهُ الْفِصَالَ بِإِرَادَتِهِمَا، وَمَا كَانَ مَقْصُورًا عَلَى وَقْتٍ مَحْدُودٍ لَا يُعَلَّقُ بِالْإِرَادَةِ وَالتَّرَاضِي وَالتَّشَاوُرِ؛ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ لِإِبَاحَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَلْوَالِدَيْنِ التَّشَاوُرَ فِيمَا يُؤَدِّي إلَى صَلَاحِ أَمْرِ الصَّغِيرِ، وَذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِمَا لَا مِنْ جِهَةِ الْيَقِينِ وَالْحَقِيقَةِ.
وَفِيهِ أَيْضًا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْفِطَامَ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ مَوْقُوفٌ عَلَى تُرَاضِيهِمَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَفْطِمَهُ دُونَ الْآخَرِ، لِقَوْلِهِ تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} فَأَجَازَ ذَلِكَ بِتَرَاضِيهِمَا وَتَشَاوُرِهِمَا. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ نَسْخٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، رَوَى شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} ثُمَّ أَنْزَلَ التَّخْفِيفَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَأَنَّهُ عِنْدَهُ كَانَ رَضَاعُ الْحَوْلَيْنِ وَاجِبًا ثُمَّ خُفِّفَ وَأُبِيحَ الرَّضَاعُ أَقَلَّ مِنْ مُدَّةِ الرَّضَاعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}.
وَرَوَى أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيّ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ مِثْلَ قَوْلِ قَتَادَةَ.
وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا حَرَجِ إنْ أَرَادَا أَنْ يَفْطِمَا قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ أَوْ بَعْدَهُمَا} وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.